هل ألغى الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون زيارته الى لبنان؟
المعلومات الرسمية، اللبنانية والفرنسية، تركز على ان الزيارة أقِرت «مبدئيا» ولم يحدَّد موعد ثابت لها، وان ما يجري السؤال عنه اليوم، ليس إلغاء الزيارة او تعديل موعد حصولها، بل الاصح، ان ماكرون «لم يحدد بعد موعد زيارته الى لبنان».
عمليا، كانت المشاورات اللبنانية - الفرنسية أخذت شكلا مختلفا بعد الدور الذي لعبته باريس في معالجة أزمة احتجاز الرئيس سعد الحريري في السعودية في تشرين الثاني من العام 2017. يومها بدت فرنسا عائدة بقوة الى لبنان، وحتى ماكرون نفسه، لم يخف غضبه من تصرفات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وادار من جانبه وساطة مع صهر الرئيس الاميركي جاريد كوشنير من اجل اقناع «الامير المجنون» بوقف ألعابه الصبيانية. بعدها، اراد ماكرون كما فرنسا استثمار هذا الدور، من خلال الحديث عن رفع مستوى اهتمامه بلبنان، فجرى تسريع التحضيرات لعقد مؤتمر باريس – 4 المعروف بـ«سيدر». كذلك انطلقت محادثات لبنانية - فرنسية تصب في خدمة جدول اعمال مفترض لزيارة الرئيس الفرنسي.
اوائل كانون الاول الماضي، سرب الفرنسيون موعدا مفترضا للزيارة في العاشر من شباط المقبل. وعملت السفارة في بيروت، بدوائرها الدبلوماسية والامنية، على البحث في مسائل كثيرة يمكن ان تصب في خدمة الزيارة. وكان الحديث يتركز على سبل تزخيم استثمار لبنان لمقررات مؤتمر «سيدر» وعلى اعلان فرنسا اهتمامها بالمشاريع التنموية لا سيما في بعض المناطق اللبنانية. وكان لافتا جمع الدوائر الفرنسية معطيات كثيرة عن الجنوب والبقاع. واكثر الفرنسيون من الحديث عن نية باريس توسيع دائرة تحالفاتها وعلاقاتها في لبنان، خصوصا مع الجمهور الحاضن لحزب الله. وقد طوروا من تواصلهم مع حزب الله، لكنهم حصروه في الجانب السياسي، وسط معارضة من الحزب لاي تواصل له بعده الامني والعسكري، خصوصا ان الفرنسيين يهتمون كثيرا ببناء علاقة مع الحزب تتعلق بالمقاومة والصراع مع اسرائيل بالاضافة الى ملفات سوريا.
اليوم، تشير المعلومات الى ان الزيارة لم تعد على جدول اعمال ماكرون، وهو ما تنفيه المصادر الفرنسية التي تجدد القول بان «الموعد لم يتقرر بعد». وتقر المصادر بوجود تطورات كثيرة لا تساعد على انجاز الزيارة قريبا، ابرزها انشغالات ماكرون الداخلية، حيث يواجه صعوبات كبيرة في مواجهة الازمات السياسية والاقتصادية في فرنسا، بالاضافة الى ان باريس لا تريد ان يزور ماكرون لبنان قبل تشكيل الحكومة اللبنانية ونيلها الثقة وانطلاق اعمالها.
لكن مراجعة سريعة لطبيعة العلاقات بين البلدين في الفترة الاخيرة، لا تشير الى تطورات ايجابية صافية من جانب فرنسا. فقد صارت باريس تهتم اكثر بالجوانب الامنية والاستراتيجية المتصلة بالصراع مع اسرائيل وما يجري في سوريا، خصوصا أن السفارة الفرنسية في بيروت تحوّلت في السنوات الماضية الى مقر لأنشطة دبلوماسية وسياسية واعلامية وامنية هدفها العمل على زعزعة الاستقرار في سوريا ودعم المجموعات المسلحة العاملة على اسقاط الدولة السورية. وتعج بيروت بالمئات من الفرنسيين الذي يعملون تحت غطاء اكاديمي وبحثي واجتماعي وحتى اقتصادي ودبلوماسي، لكنهم يعملون في خدمة مباشرة وغير مباشرة لبرامج تخص المؤسسة الأمنية الفرنسية.
الفرنسيون لا يخفون ان تعاونهم الأمني مع اسرائيل والولايات المتحدة يؤثر على عملهم في لبنان، كما يؤثر على ملفات أخرى. وكان لبنان اختبر العام الماضي طريقة تعامل باريس امنيا مع الملفات الحساسة التي تخض العدو، من هرولة باريس الى لعب دور «ناقل الكلام السلبي» لناحية التهويل الذي مارسه الفرنسيون على لبنان بناء على طلب اسرائيل بشأن ملف الصواريخ الدقيقة الموجودة لدى المقاومة، حتى صار الفرنسيون يعرضون صوراً لأجهزة و«تكنولوجيّات» تستخدم لتطوير الصواريخ ويقولون انها باتت موجودة لدى حزب الله.
لكن لباريس دوراً اكبر في سياق خضوعها لطلبات تل ابيب. وقد سبق للحكومة اللبنانية، ان طلبت - من خلال الاجهزة الامنية المعنية - مساعدة فرنسية في ملاحقة احد اعضاء خلية الاستخبارات الاسرائيلية التي تورطت في محاولة اغتيال الكادر الفلسطيني في حركة «حماس» محمد حمدان، في 14 كانون الثاني عام 2018 في صيدا. يومها، تبين لمحققي فرع المعلومات في قوى الامن الداخلي ان احد اعضاء خلية التنفيذ، والذي يعتقد انه اسرائيلي الجنسية، كان يستخدم جوازي سفر، احدهما سويدي والثاني عراقي، وعرف باسم كوفان بامارني. وهو غادر لبنان برا الى سوريا مباشرة بعد العملية، ومنها استقل طائرة الى الجزائر حيث مكث لوقت قصير في مطارها الدولي قبل ان يستقل طائرة اخرى الى فرنسا. وفي وقت لاحق، امكن لفرع المعلومات الحصول على هواتف العميل الاسرائيلي، حيث تم تشغيل احدها في فرنسا بتاريخ 21 كانون الثاني 2018. عندها سارع الفرع الى مراسلة اجهزة الاستخبارات الفرنسية، الداخلية والخارجية، طالبا المساعدة في جمع معلومات عن الرجل. لكن باريس، بقيت لأسابيع طويلة لا تقدم على اي تعاون. وكان مندوب الاستخبارات الخارجية الفرنسية في بيروت يقول إن جماعته في باريس يحتاجون الى مزيد من الوقت. الى ان حمل جوابا في وقت لاحق، تضمن معلومات عامة جدا، مثل عنوان سكن العميل الإسرائيلي في فرنسا، ومعلومات عن تلقيه حوالات مالية من مصارف في اميركا اللاتينية.
لبنان الرسمي الذي لا يضغط عادة على عواصم مثل باريس، تعامل ببرودة مع الاجوبة الامنية الفرنسية، علما أننا في «الأخبار» علمنا من مصادر امنية اوروبية موقع سكن العميل الاسرائيلي في فرنسا، قبل ان يحصل لبنان رسميا على هذا الجواب من قبل الجهات الفرنسية المعنية. وكان المعنيون في بيروت، يعرفون ان باريس «تريد افهامنا بأنها غير مستعدة للذهاب بعيدا في المساعدة بامر يضر باسرائيل». مع الاشارة هنا الى ان الجهات السياسية الرسمية في لبنان، لم تتعامل مع الموضوع بصورة جدية، بخلاف ما يتحدث كثيرون.
على ان هناك جانبا آخر بقي بعيداً عن الاضواء، يتصل بقضية عالقة بين لبنان وفرنسا، هي قضية المناضل المخطوف في فرنسا جورج عبدالله، والذي لا يزال في سجنه من دون اي مبرر قانوني. جورج عبدالله رهينة لدى السلطات الفرنسية، لسبب وحيد هو تلبية الطلبات الاميركية والاسرائيلية، وهو ما يقرّ به الفرنسيون في المحادثات الرسمية وغير الرسمية.
الاجوبة الفرنسية الواردة حتى الآن «مثيرة للسخرية، وتعكس لامبالاة تتناقض كليا مع الوعود السابقة»
وخلال الفترة الماضية، وتحديداً بعد تولي السفير برنارد إيميه رئاسة الاستخبارات الخارجية الفرنسية، وتطور التواصل بينه وبين قادة الاجهزة الامنية اللبنانية، وهو الذي يعرف لبنان جيدا اذ خدم هنا كسفير لبلاده لعدة سنوات شملت المرحلة التي اغتيل فيها الرئيس رفيق الحريري وما تبع ذلك من تطورات. وقد زار ايميه لبنان بعد توليه منصبه الجديد، كما استقبل في باريس مسؤولين امنيين وغير امنيين من لبنان وبحث معهم ملف العلاقات الثنائية اضافة الى مسائل اخرى. مع الاشارة هنا الى ان فريق ايميه الضيق العامل معه اليوم، يضم بين اعضائه اكثر من مسؤول خدموا في لبنان ويعرفون تفاصيل كثيرة عنه وعن قواه السياسية وشخصياته العامة. وسبق لهم جميعا ان سمعوا مطالبات دائمة باطلاق سراح المناضل عبدالله.
التطور الذي حصل، هو ان باريس ارسلت اشارة اولى ايجابية، تظهر استعدادا لخطوة في طريق معالجة هذا الملف. وكان واضحا ان باريس تبحث عن مخرج، خشية حصول تطورات سلبية من بينها احتمال تعرضها لاعمال أمنية رداً على استمرار اختطاف عبدالله. وتبعت هذه الاشارة رسالة أخرى تقول إن الرئيس الفرنسي يدرس جديا الملف، ربطا بزيارته المحتملة الى بيروت. وعلمت «الأخبار» ان سلسلة من الاجتماعات واللقاءات عقدت في بيروت وباريس لهذا الغرض، وان القيادة الفرنسية تلقت رسائل واضحة من جهات رسمية لبنانية عدة، تطلب ايضاحات حول الملف. وترافق ذلك، مع قرار وزارة الخارجية ايفاد سفير لبنان في باريس، رامي عدوان، ليقوم باول زيارة لدبلوماسي لبناني بهذا المستوى الى عبد الله في سجنه، وهو وضعه في اجواء اتصالات جارية يأمل لبنان ان تكون نتيجتها ايجابية.
وحسب المعلومات، فان الحرارة التي دبت في هذا الملف خلال الفترة السابقة لعطلة الاعياد نهاية السنة الماضية، عادت لتبرد بقوة في الاسابيع الاخيرة. اذ تبين ان الجانب الفرنسي لم يعد يقدم الاجابات للحكومة اللبنانية حول الوضع القانوني لعبدالله، وتوقف عن البحث العملاني في الملف، مع العلم ان قنوات خاصة بقيت تعمل. لكن السؤال الاساسي الذي ينتظر لبنان الاجابة عليه، ولا يزال هو: كيف تبرر فرنسا استمرار احتجاز جورج عبدالله في سجونها حتى الان؟ تقول مصادر معنية بالملف لـ«الأخبار» إن الاجوبة الفرنسية الواردة حتى الآن «مثيرة للسخرية، وتعكس لامبالاة تتناقض كليا مع الوعود السابقة». واوضحت المصادر «ان ما يحصل الآن يقول لنا أمرا واحدا، وهو ان فرنسا تكذب علينا، وهي لا تريد اطلاق سراح جورج عبدالله، لا بقرار قضائي ولا بعفو رئاسي كما قيل لنا». وألمحت المصادر نفسها الى ان لبنان الرسمي صار مضطرا لان يدرس خطوة مختلفة في آليات عمله لتحرير الرهينة عبدالله من السجون الفرنسية!